مروان الغفوري
لم تكن إسرائيل في أيّ من حروبها كُلّيةَ الاعتمادِ على أميركا، كأنها مستعمرة صغيرة، كما هي الآن. هذا ما لاحظه جدعون ليفي في مقالة له على “هآرتس”. في تقديره فهذا أخطر ما كشفته الحرب على غزة.
تؤكد كل الشواهد ذكاء ما لاحظه ليفي، فمن أجل أن تخوض حربًا على قطاع صغير محاصر تسلّمت إسرائيل ما يزيد عن 53 ألف طن من الذخيرة من أميركا. وحتى تتمكن من شن الحرب بلا ضوابط فقد حصلت على غطاء سياسي، وحتى قانوني، أميركي في كل المحافل.
كل هذا لم يغيّر الحقيقة الإسرائيلية الراهنة، وهي أنها باتت أقل أمنًا منها قبل ستين عامًا. القوة مركّب غير مستقر، وقد يكفي القليل منها لزعزعة استقرار الكيانات بالغة القوة.
في تبريره لاتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله ردد نتنياهو الكثير من الهراء، والقليل من الحقيقة. من الحقائق التي قالها إن أميركا كانت تلبّي طلباته العسكرية على نحو متأخر. يرتفع هذا الهراء إلى درجة الحقيقة حين نقرؤه من خلال عينَي جدعون ليفي، وهي أن إسرائيل خائفة حين تكون وحيدة، وربما عاجزة. حتى إنّ بعض التلكؤ في إيصال الشحنات العسكرية بات من الأسباب التي دفعتها إلى إيقاف حرب – قالت إنها وجودية – على حدودها الشمالية.
قبل ستين عامًا كتب المشير عبدالحكيم عامر عن حرب يونيو/ حزيران “قامت الحرب، وانتصرت إسرائيل”. كانت إسرائيل تنتصر بمجرّد أن تقوم الحرب، وكان نصرها يغيّر شكل الجغرافيا وطبيعة السياسة على نحو طويل المدى.
كانت تُغِير على الدول بمفردها، مستقلّة لا تستأذن إلا نادرًا. لم تكن أميركا جزءًا من سردية البقاء الصهيونية حتى نهاية ستينيات القرن الماضي. حتى وهي تنقضّ على الأراضي الفلسطينية قبل وبعد قرار التقسيم، 1947/1948م، كانت تعمل وفقًا لإرادتها السياسية وخيالها التوراتي.
صادمت الانتداب البريطاني سياسيًا وعسكريًا في مفاصل عديدة، خصوصًا بعد أن أعلنت بريطانيا عن خارطة طريق سياسية، 1939م، حملت عنوان “الكتاب الأبيض”. في مواجهة خارطة الطريق البريطانية أعلن بن غوريون، الذي سيصبح المؤسس الأول للدولة: “سنقاتل الكتاب الأبيض وكأنه لا حرب، ونخوض الحرب وكأنه لا يوجد كتاب أبيض”.
بلغ النزق الإسرائيلي، لنقل الاستقلال الإسرائيلي، حد الهجوم على السفينة الحربية الأميركية ليبرتي في المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط، في رابع أيام حرب يونيو/ حزيران 1967م.
على إثر هجوم مركّب من الجو والبحر فقد 34 بحّارًا أميركيًا حياتهم، وأصيب حوالي 171 آخرين. لا تزال دوافع هذا الهجوم غامضة ومريبة، وتبدو رواية “الخطأ التقني” التي اتفقت عليها واشنطن وتل أبيب غير مقنعة. مُنع الناجون والمصابون من الإدلاء بأي تصريح حول ما جرى.
مطلع الألفية أعاد جيمس بامفورد، الصحفي ومنتج الأفلام الوثائقية، التذكير بتلك الحادثة مؤكدًا أن إسرائيل أقدمت على الفعل حتى تبقي الشهود بعيدين عن مسرح الجريمة. وكانت الجريمة، كما يرصدها بامفورد، هي قتل مئات الأسرى المصريين وإلقاء جثثهم على الرمال القريبة من العريش.
إسرائيل تلك، صاحبة قرار الحرب والجريمة والقادرة على شن عمليات عسكرية ضد أميركا وبريطانيا، لم تعد قائمة الآن كما يلاحظ ليفي. ما نراه راهنًا هو كيان شديد الاعتماد على واشنطن، يرهن وجوده في يد قوّة هي أبعد ما تكون عنه.
لنعد إلى البدايات. كان عرب ما بعد الحرب العالمية الأولى في حالة تيه سياسي، ما من كيان عربي جامع، وبالمعنى السياسي فقد كانوا غير مرئيين أو لا أحدَ. عندما وقف الرحالة الإنجليزي مارك سايكس أمام الحكومة البريطانية، في العام 1915م، ليخبرها عن الفراغ الكبير في الشرق الأوسط كان يتحدث بثقة ويرسم خطًّا على الخارطة من عكّا إلى كركوك. ثمّة فراغ لا بد من اقتسامه قبل أن تضع الحرب الأوروبية أوزارها، قال الشاب الثلاثيني سايكس.
رأت بريطانيا الفراغ السياسي وادّعت الصهيونية فراغًا ديمغرافيًا. في فيلم (هذه هي الأرض 1935) يتوافد المهاجرون الصهاينة إلى “الأرض التي كانت خصبة ذات يوم وهُجرت وتحولت إلى أنقاض” كما يقول عنوان فرعي للفيلم.
هي إذن العودة إلى الأنقاض، إلى الفراغ. يركض جملٌ وحيدٌ أول الأمر، من خلفه عربي بلا ملامح، لا يُرى وجهه إمعانًا في إخفائه. ثم تأتي بضعة جِمال بلا راعٍ وتذهب في الصحراء. تلك هي الحيوات التي كانت سائدة في ذلك المكان من العالم منذ هجَره اليهود سنة 60 للميلاد كما تقول السردية الإسرائيلية.
التحدي الذي وجده الصهاينة الأوائل لم يكن سوى الصحراء والأنقاض. ما من بشر في انتظارهم، وليس للأرض من صاحب. يمضي الفيلم ليُريَ العالم الغربي، المُستهدف، صورة شديدة الحساسية والتأثير، إذ يسقط فلاح إسرائيلي من الكد والتعب، يتلاشى جسده في التربة؛ التربة التي ستورق من خلاياه ولحمه.
لقد جعل الدم الصهيوني الصحراء تزهر. لا يزال الخيال الغربي، الشعبي والسياسي، يرى البدايات الصهيونية على ذلك النحو الذي رسمته الأفلام الصهيونية الصامتة مطلع القرن الماضي: أرض بلا شعب. ثم جاء العرب من اللامكان، تقول السردية الصهيونية، وأسموا أنفسهم بالفلسطينيين.