مازن النجار
من تحوّلات “طوفان الأقصى” في الغرب انكسار شبه الإجماع الأميركي على دعم الكيان الصهيوني المطلق، ودخول هذه المسألة نطاق الاهتمام العام وغدت ولأول مرة معارضة سياسات الإدارة الداعمة للكيان قضية رأي عام واسع في عام انتخابي حرج. ونظراً إلى دعم إدارة بايدن ومشاركتها في حرب الإبادة، فقد يخسر الديمقراطيون الانتخابات القادمة بعد أسابيع، ويعود الرئيس السابق دونالد ترامب والجمهوريون إلى البيت الأبيض، بما يستتبع ذلك من تطرّف وفوضى واضطرابات تمسّ الدولة العميقة الأميركية وسياساتها والنظام الدولي بأسره، ومآل حرب أوكرانيا.
تظهر خريطة أصوات ناخبي الحزب الديمقراطي وزناً نسبياً هاماً لجناحه التقدمي والشباب بين 19 و26 عاماً والعرب والمسلمين، وصعوبة حصول أي مرشح ديمقراطي على الأصوات اللازمة للفوز بالبيت الأبيض، بالسياسات نفسها لإدارة بايدن الشريكة في الإبادة الجماعية الدائرة في فلسطين ولبنان. وما لم تعلق المرشحة الديمقراطية، كمالا هاريس، شحنات أسلحة الإبادة إلى “إسرائيل”، سيفوز ترامب غالباً بالانتخابات؛ لأن الناخبين المسلمين والعرب والتقدميين في الولايات المتأرجحة لن يصوّتوا لحزب الإبادة (الديمقراطي) ولا لحزب الإبادة الآخر (الجمهوري) بقيادة ترامب المسكون بطاقة صراعية هائلة وعظمة زائفة، ولن يتردد في تسعير الحروب الباردة وإذكاء الصراعات الساخنة.
يُرجِّح مراقبون، في الحالتين، أن تتراجع مكانة الولايات المتحدة كإمبراطورية، ما لم يستيقظ شعبها كما فعل خلال الستينيات. لقد توقع كثيرون هذا التراجع وحذروا منه منذ زمن، لكن سرعة التدهور مذهلة، ما يفاقم مخاطر اندلاع حرب عالمية لإنقاذ الإمبراطورية، وهي فرصة خاسرة في سياق انتشار أسلحة الدمار الشامل عالية التقنية.
لا تقتصر مؤشرات التدهور الأميركي على سوء أداء نظام الرعاية الصحية، ووفاة 1.2 مليون شخص ونيّف خلال وباء كوفيد-19، و35 تريليون دولار ديون حكومية، بعضها لدول كالصين واليابان استدينت لخوض حروب جماعات الضغط، وتريليونات أخرى ديون الأفراد والشركات، وأعلى تعداد مساجين في العالم، يتجاوز مليوني أميركي خلف القضبان. واستيلاء قيادة غير مسؤولة على حلف الأطلسي تدفع نحو حرب عالمية.
وقد كشفت حرب أوكرانيا عن تراجع التصنيع والإنتاج نتيجة الاقتصاد النيوليبرالي الذي نقل المصانع إلى الخارج، وعجزت أميركا وحلف الأطلسي عن إنتاج أسلحة وذخائر كافية لأوكرانيا. كذلك شهدت العقود الأخيرة زيادة حادة في معدلات الوفيات في أميركا لتتجاوز بكثير معدلاتها في روسيا، وتفاقم حالات الانتحار وجرائم القتل، وسيادة العدمية الإمبراطورية وهوس مزمن بالحروب الأبدية.
كما تكشّف وهم ديمقراطية النظام السياسي، ديمقراطيون وجمهوريون يتبادلون المقاعد ويتداولون السلطة، بينما تدير النظام فعلياً جهات فاعلة متنفذة غير منتخبة: نظام الاحتياطي الفيدرالي يديره مصرفيون أثرياء، وجماعات ضغط كاللوبي الصهيوني، ومليارديرات يتبرعون بمئات الملايين لمرشحي الرئاسة والكونغرس من كلا الحزبين المتنافسين، لضمان أمن “إسرائيل” ومصالحهم الشخصية الأنانية.
يدرك الناس الآن بشكل متزايد أن ما يسمى “نظام العدالة” مختل، ويخدم الأثرياء والأقوياء. تصدر محاكم المستوى الأدنى على الأفراد السود أحكاماً قاسية، بينما تبرئ القتلة العنصريين البيض، في حين يسمح المستوى القضائي الأوسط باستمرار فساد الأثرياء، أمثال دونالد ترامب وشيلدون أديلسون وحاييم سابين وروجر ستون وليز ويكسنر، وصولاً إلى المحكمة العليا التي يسيطر عليها الجمهوريون، وقد قضت بأن تصرفات الرئيس أثناء وجوده في منصبه لا تخضع لقانون أو ملاحقة قضائية.
حتى حرية التعبير المنصوص عليها في التعديل الدستوري الأول، ومحاولات مقاطعة دول مارقة مثل “إسرائيل”، دولة الإبادة الجماعية ونظام الفصل العنصري، محظورة الآن بالقانون في ولايات أميركية عديدة ولوائح فيدرالية. تدور هذه الحرب على الحقيقة والعدالة في الغرب بالتوازي مع حرب إبادة جماعية فعلية على أهل فلسطين ولبنان وغيرهم، لإخلاء الأرض والموارد التي تطمع فيها الإمبراطورية من سكانها الأصليين.
رغم كل شيء، فإن النظام الدولي الإمبريالي لا يمضي بالطريقة التي خُطِط لها. كانت خطط صهاينة المحافظين الجدد في التسعينيات تتضمن استراتيجيات تنبأت بحدث مثل 11 سبتمبر 2001، يساعدهم في تأمين “قرن أميركي جديد” يعيد اجتياح العالم، وغزو العراق المخطط له مسبقاً، وإعادة تجزئة منطقتنا واحتلالها واختراقها.وقد أتت جميعها بنتائج عكسية. فإيران والصين وروسيا تتحدى واشنطن “المحتلة إسرائيلياً”، في شأن الحرب الاقتصادية والعقوبات غير القانونية على إيران وسوريا، وربطت بين اقتصاداتها وتعاونها العسكري وأكثر.
في سياق متغيرات عديدة، قد يفوز ترامب بالانتخابات، لكن هذا لن يؤدي إلا إلى تسريع زوال القوة الأميركية. يلاحظ أن اللوبي الإسرائيلي يريد فوز ترامب لإكمال هداياه لـ”إسرائيل” وتحصين اللوبي ضد القانون وخارج التدقيق. وسيفعل ترامب ودائرته أي شيء للفوز، بينما لا يُسمح للجمهور الأميركي بسماع كل الحقائق، وتتلاعب به شبكات الإعلام الكبرى ووسائل التواصل الاجتماعي للتصويت لصالح الأقل شراً، بناءً على بروباغندا الخوف، وقد أنفِقَت مئات الملايين على إعلانات المرشحين. بدورها، ستقوِّض استمالة هاريس للوبي الإسرائيلي ودعمها الإبادة الجماعية، أي وجود تقدمي “وهمي” في الحزب الديمقراطي، الذي هو حزب فاسد وعمل جنباً إلى جنب مع الجمهوريين لعدم قيام أحزاب أخرى.
تكمن خطورة ما بعد الانتخابات الأميركية في أن تشن الولايات المتحدة وحلفاؤها حرباً عالمية لتعزيز المشروع الصهيوني، وحسم صراعه مع شعب فلسطين بتهجير أهل غزة والضفة وتصفية القضية، وتمكين الكيان، توسّعاً واستيطاناً وابتزازاً وتطبيعاً، وإقامة إمبراطوريته في شرق المتوسط، وتدمير قوى المقاومة وإجهاض جهودها لتعديل توازن القوى لصالح الأمة، سياسياً ونووياً وجيوسياسياً. يبقى نظام الفصل العنصري الصهيوني والإبادة الجماعية المستمرة في فلسطين نقطة ارتكاز المشروع الغربي الإمبريالي ورؤيته لمستقبل العالم الإسلامي.
لكن أميركا الحقيقية أضعف من أن تواجه أي طرف باستثناء الضعفاء عسكرياً. وهذا يفسر التنمر الجيوسياسي تجاه دول متخلفة فقيرة أنهكتها العقوبات والحصار، وتمثل خطراً عسكرياً ضئيلاً أو معدوماً، لا يبرر التغول الأميركي حول العالم.
غدت الولايات المتحدة تشبه إمبراطورية رومانية متهالكة، تعاني إفراطاً في الإنفاق العسكري، وعدم المساواة، واستياء داخلياً. ولإبقاء العالم في صفها، ومنع دائنيها من المطالبة بديونهم، يتعين عليها كإمبراطورية (متهالكة)التلويح بعصا غليظة.
يكرر العالم الخطأ نفسه في قراءة وضع الاتحاد السوفياتي خلال السبعينيات، مع توسع تدخله العسكري، أي إساءة تفسير توسع النشاط العسكري الأميركي كمؤشر على قوة متزايدة، في حين أنه قناع لإخفاء التراجع والأفول!
في طور الأفول تزداد شراسة الإمبراطوريات وعدوانيتها، لذلك ينبغي لقوى المقاومة في منطقتنا الحذر الشديد إزاء تداعيات الأفعال وتفاعلات ردود الأفعال.