بعد أسبوع ينتهي الشهر التاسع من أطول حرب مع العدو. الكارثة الماثلة للعيان في غزة بفعل حرب الإبادة، تُبقي المسألة الفلسطينية عالقة في مكانها. فإسرائيل لم تجد حلاً لما تعتبره معضلة أمنية، في مقابل عالم ليس في وارد الاستفاقة من سباته. ويلتفت كثيرون إلى الخلف خشية انتقال موجة الدمار صوب لبنان، فيما لا يملك جيش الاحتلال الوصفة السحرية للتخلص من «مرض الشمال».لنعد إلى الوراء قليلاً. بعد 7 أكتوبر، لم يكن أحد في العالم في وارد سؤال إسرائيل عمّا تريد فعله. لكن، قبل بدء العملية البرية نهاية تشرين الأول الماضي، حصل نقاش مهني في غرف القيادة العسكرية والأمنية في إسرائيل. المداولات التي سُرِّب القليل عنها في حينه، بدأت تظهر بشكل أكثر تفصيلاً هذه الأيام. وكان بين الحاضرين فريق من مستشاري وزارة الدفاع الأميركية، حضروا للاطّلاع على حاجات جيش الاحتلال من الدعم الأمني والاستخباراتي والذخائر. لكن كان بينهم من حاول «تصويب» وجهة العمل، ربطاً بتقييم سابق يفيد بأن جيش العدو ليس جاهزاً كفاية للانتصار.
اليوم، يقرّ جنرالات كبار في البنتاغون بأن القيادات العسكرية والأمنية والسياسية في إسرائيل رفضت النصائح الخاصة بالحرب. وتظهر التسريبات الجديدة أن الأميركيين نصحوا تل أبيب بعدم خوض حرب تدميرية شاملة. صحيح أنهم وافقوا على حملة جوية كثيفة لـ«تأديب الفلسطينيين»، لكنهم أبلغوا قادة العدو بأن الأفضل لهم الإطباق على القطاع وهو اللجوء إلى الحصار الكامل، والإطباق على القطاع، والضغط الميداني من خلال تقطيعه إلى مربعات، وتنفيذ عمليات جراحية موضعية، بموازاة رفع مستوى الضغط السياسي على الفلسطينيين، و«سيكون العالم كله معكم. وعندها ستصلون إلى نتائج ممكنة بإطلاق الأسرى بثمن بخس، وبتغيير الوضع في داخل القطاع».
لكنّ الأميركيين فهموا سريعاً أن قادة العدو يفكرون بعلاج من نوع مختلف. لم يستمع الأميركيون يومها جيداً لمسؤول إسرائيلي كبير قال لهم: «هل تعرفون لماذا لم تُطلق الصواريخ من عسقلان؟ فقط لأنه لا وجود للفلسطينيين هناك. وإذا كنا نريد تجنب تكرار 7 أكتوبر، وضمان عدم إطلاق صواريخ من غزة تجاهنا، فهذا يعني أن علينا طرد الفلسطينيين من القطاع». يومها، سمع الأميركيون أيضاً، ومعهم مسؤولون كبار في الأمم المتحدة ومصر والأردن، كلاماً واضحاً عن التهجير القسري لأبناء غزة نحو سيناء. قامت الدنيا، لكن ما أفشل المهمة ليس الخوف أو الرفض المصري أو الأردني (ولو أنه لا يمكن تجاهل موقف البلدين)، بل إن ما منع النكبة الجديدة، والذي لم يكن في حسبان أحد، أن المقاومة في غزة كانت قد استعدّت جيداً للمعركة، وما حصل مذَّاك مذهل، ويحتاج إلى عقود من البحث والكتابة لتفسير سر هذا الصمود الأسطوري لأبناء غزة.
اليوم، بعد تسعة أشهر على الحرب، اكتشف العالم كله أن إسرائيل غير قادرة على إنجاز المهمة، وأن أي دعم إضافي لجيش الاحتلال لن يحقّق تقدماً أكبر، رغم الجريمة الهائلة التي ارتكبها العدو في القطاع والتي لن تُمحى من الذاكرة بسهولة.
واليوم يواصل قادة العدو التصرف بصبيانية سياسية واستعلاء إضافي. وهم وجدوا، بعد تسعة أشهر من التدمير، أن عليهم الأخذ بنصيحة الجيش الأميركي، فاستضافوا جنرال الإرهاب الأميركي في العراق، ديفيد بترايوس، واستمعوا لمجرم الحرب الأميركي بانتباه، وهو يحدّثهم عن تجارب جيشه في الفلوجة والموصل وأفغانستان. ربما لم يسأله أحد عن نتيجة ما قام به. لكنّ نظراءه من الإسرائيليين كانوا يريدون منه تغطيته لخطوة سيقولون لاحقاً إنهم التزموا بها نزولاً عند رغبة واشنطن والحلفاء الغربيين. والنتيجة ما نشهده الآن في ما يطلقون عليه «المرحلة الثالثة» من الحرب.
خطة بترايوس التي قرّر العدو العمل بها هي نفسها ما اقترحه جنرالات البنتاغون على قادة العدو في اجتماعات ما بعد 7 أكتوبر. وتقوم على فكرة الحصار الشامل، وهو أمر حاصل بعد احتلال كل الخط الحدودي بين رفح والأراضي المصرية، ورفع مستوى الضغط بحيث لا يمكن إدخال علبة طعام من دون موافقة جيش الاحتلال، وتنفيذ برنامج أمني – عسكري على شاكلة ما يحصل في وسط القطاع أو شماله، لجهة تدمير كل البنية التحتية للخدمات. لتكون الحصيلة الفعلية إطلاق معركة تجويع القطاع. وما يريده العدو من الآن وصاعداً ابتزاز أبناء غزة ومقاومتها، بالرغيف وحبة الدواء، لتحصيل ما عجز عن تحقيقه في الحرب المدمّرة. ويتكل الإسرائيليون على مصر والأردن والإمارات وبعض الأطراف الفلسطينية لبناء شبكة من «المتعاونين المحليين» من أبناء غزة، وتقديمهم كـ«أهل للثقة لتسلّم المساعدات وتوزيعها على العائلات»… وكل ذلك بالتزامن مع موجة ضغوط من حكومات الغرب، ودول «الوساطة العربية»، لمطالبة المقاومة بالتنازل رأفة بالشعب الجائع.
رسائل غزة تؤكد جاهزية المقاومة للصمود طويلاً ولإفشال مشروع السلطة البديلة باسم إدارة ملف الإغاثة والمساعدات
هذا من جانب العدو وحلفائه، فماذا عن المقاومة ومحورها وقواها؟
في آخر الرسائل الواردة من قيادة كتائب عز الدين القسام، ثمة إشارات واضحة إلى أن العمليات العسكرية الإسرائيلية خلال تسعة أشهر لم تحقق أي نتائج قريبة من هدف سحق المقاومة، وأن سقوط آلاف الشهداء من مقاومي حماس والجهاد الإسلامي وبقية فصائل المقاومة، لم يمنع إعادة تشكيل القطع العسكرية بطريقة جديدة، تأخذ في الاعتبار جملة من الأمور، أساسها حاجة الميدان لناحية عدد المقاتلين وطبيعة انتشارهم ونوعية اختصاصاتهم، مع الإشارة إلى أن العدو قد لا يفهم على الإطلاق أن وحشيته دفعت بآلاف من الشباب الفلسطيني إلى طلب الالتحاق بصفوف الكتائب المقاتلة. وإذا كانت طبيعة العمليات تحتاج إلى عناصر مدربين ولديهم القدرة على العمل تحت الضغط، فإن عملية تعبئة الطاقات جارية بما يخدم البيئة التي تعمل فيها المقاومة. وسبق أن وصلت رسالة قبل نحو 40 يوماً إلى غرفة العمليات المشتركة لقوى محور المقاومة، تؤكد أن المقاومة في فلسطين مستمرة في تصنيع حاجاتها من القذائف المضادة للدروع والتحصينات والأفراد، وأنها أخرجت كمية كبيرة من المدافع التي تحتاج إليها لقصف نقاط تمركز قوات الاحتلال. لكنّ رسائل المقاومة تشدد على ما هو أهم، لجهة أنها باتت جاهزة للدخول في معركة ملاحقة جنود العدو حيث ينتشرون، وتنفيذ الكمائن القاتلة لقواته المتوغّلة.
وعلى الجبهة المدنية، فإن مجريات كثيرة لا تخرج إلى العلن، تؤكد أن حماس ومعها فصائل المقاومة قادرة أيضاً على وضع الضوابط الضرورية لإدارة الشأن الإنساني في القطاع. صحيح أن أحداً لا يريد الاستئثار بالإدارة كما يفترض العدو، لكن الأكثر صحة، هو أن المقاومة لن تقبل بأي محاولة لفرض سلطة بديلة، سواء باسم توزيع المساعدات، أو باسم إعادة الإغاثة والإعمار. وقد تلقّت الجهات الراغبة بالتعاون مع الاحتلال الرسائل اللازمة حول هذا الأمر، وهو ما يزيد مشكلة العدو وداعميه.
أما على صعيد جبهات الإسناد، فقد أقرّ الأميركيون بفشل خطتهم لاحتواء «أنصار الله» في البحريْن العربي والأحمر، وهم على قاب قوس أو أدنى من استئناف الضغط لمنع رفع المقاومة العراقية من مستوى مشاركتها في العمليات العسكرية. والجميع يراقب مستوى التهديدات بشن العدو حرباً شاملة على المقاومة في لبنان، وهي تهديدات لا يجب حصرها بما يصدر من مواقف وتسريبات، بل ينبغي التدقيق في مقدّماتها الميدانية، كونها أكثر فعالية من المقدّمات السياسية.
وتشير المعطيات الواردة من العاصمة الأميركية إلى أن البحث يتركز حول كيفية استغلال ما يسميه العدو «تقليص العمليات العسكرية الكثيفة» في غزة، لإقناع حزب الله بتخفيف عملياته العسكرية، وهو ما تريده واشنطن مدخلاً لوساطة تعتقد أنها تؤمّن وقفاً تدريجياً لإطلاق النار على الجبهة اللبنانية، وصولاً إلى تسوية كاملة عند توقف الحرب في غزة.