تشهد معظم دول العالم ارتفاعا غير مسبوق في درجات الحرارة، يهدد، وفق العديد من الخبراء، بشكل مباشر الحياة على الأرض
وأظهرت محطات الرصد الجوي وفقا لرئيس مركز معلومات المناخ في وزارة الزراعة المصرية، الدكتور محمد علي فهيم “ارتفاعاً واضحاً في متوسط درجات الحرارة الذي اقترب من 1.5 درجة مئوية، وهو اقتراب متسارع يتجاوز الحد المنصوص عليه في اتفاقيات باريس، ما يشكل تحديّاً خطيراً”.
موجة الحر الشديدة تؤثر على جميع دول العالم، يقول فهيم في حديث مع موقع “الحرة” “بما في ذلك المناطق التي عرفت بمناخها البارد مثل غرب كندا، جنوب أوروبا والشرق الأقصى”.
ورغم أن الشرق الأوسط قد يبدو أقل تأثراً بتغير المناخ مقارنة ببعض المناطق الأخرى، تشهد المنطقة، وفق فهيم، “تغيرات مناخية ملحوظة، مثل العاصفة دانيال التي ضربت شرق ليبيا من خلال انتقالها من جنوب أوروبا عبر البحر المتوسط إلى شمال إفريقيا، وكذلك الأمطار غير المتوقعة في الإمارات، عمان، وجنوب شرق الخليج العربي خلال أبريل الماضي”.
كما أن “التغيرات في أنماط هطول الأمطار الموسمية في مناطق القرن الإفريقي وجنوب الصحراء الكبرى، والتي تشمل السودان وتشاد وإثيوبيا واليمن والسعودية وجنوب مصر، تشير إلى حدوث تغير كبير في المناخ. فالتغيرات في كمية الأمطار وتوقيتها وشدتها، إلى جانب التغيرات في درجات الحرارة، تؤكد على هذا التحول المناخي المتسارع”.
ولا يقتصر الأمر على ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف، بل يشمل أيضاً بحسب فهيم “الانخفاضات الحادة في درجات الحرارة خلال الشتاء، والعواصف الثلجية في المناطق الباردة، والأمطار الغزيرة التي تتحول إلى سيول وفيضانات في بعض مناطق العالم”.
أسباب الكارثة
يؤكد رئيس دائرة المناخ في مصلحة الأرصاد الجوية، وأستاذ المناخ في الجامعة اللبنانية، الدكتور طارق سلهب، أن درجات الحرارة الحالية التي يشهدها العالم تتجاوز المعدلات الطبيعية، موضحا أن هذه الظاهرة تحدث بشكل دوري كل عشر سنوات تقريبا.
ويرجع سلهب هذا الارتفاع إلى تضافر عدة عوامل، على رأسها “التغيرات المناخية الناتجة عن الأنشطة البشرية، مثل حرق الوقود الأحفوري، وهو ما يزيد من تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي ويؤدي إلى احتباس الحرارة وارتفاع درجة حرارة الكوكب”.
أما العامل الثاني فيتمثل، بحسب ما قاله سلهب لموقع “الحرة”، في “أنظمة الضغط الجوي التي تؤدي إلى تغير في أنماط الرياح وتوزيع الأمطار، مما يؤثر مباشرة على درجات الحرارة”، مشيرا إلى تأثير ظاهرة النينو، “التي تتمثل في ارتفاع غير طبيعي لدرجة حرارة سطح المحيط الهادئ الاستوائي، على الأنظمة الجوية العالمية”.
ويوضح سلهب أن ظاهرة النينو “تؤدي إلى تغييرات في أنماط الرياح والتيارات البحرية، مما يؤثر على توزيع الأمطار ودرجات الحرارة في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك منطقة حوض البحر المتوسط، حيث تؤثر على حركة الرياح الغربية وجلب الأمطار إليها”.
ويضيف أن النينو يمكن أن “تسبب جفافا في بعض المناطق وفيضانات في مناطق أخرى، كما يمكن أن تؤدي إلى زيادة في تواتر وشدة العواصف”، ويلفت إلى أن “التيار النفاث يلعب دوراً هاماً في جلب المنخفضات الجوية إلى المنطقة، مما يساهم في ارتفاع درجات الحرارة وزيادة سرعة الرياح خلال فصل الصيف الحالي”.
أما العامل الثالث فيتمثل بالنشاط الشمسي، “حيث تشهد الشمس حالياً فترة ذروة في نشاطها، مما يزيد من الرياح الشمسية التي تصل إلى الغلاف الجوي للأرض وتساهم في ارتفاع درجة حرارته”.
ويوضح سلهب أن “التقاء هذه العوامل الثلاثة هذا العام أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة خلال فصل الصيف الحالي مقارنة بالأعوام السابقة، إلا أنه توقع أن تهدأ هذه الظروف تدريجياً مع تراجع النشاط الشمسي والانتقال إلى ظاهرة لا نينا، الظاهرة العكسية للنينو، والتي ستؤثر على أنماط الطقس العالمية”.
من جانبه يحذّر رئيس حزب البيئة العالمي، الدكتور ضومط كامل، من خطورة التغير المناخي الذي وصل إليه كوكبنا، مرجعاً السبب الرئيسي لهذه التغيرات المناخية إلى “الأنشطة البشرية، مثل إزالة الغابات واستخدام الوقود الأحفوري بكثافة. كما أوضح أن النشاطات العسكرية تلعب دوراً كبيراً في تغيير أنماط المناخ، إذ تؤدي الانفجارات والانبعاثات الناتجة عن الحروب إلى ارتفاع حرارة طبقات الجو العليا وتغيير مسارات التيارات الهوائية”.
ويشير كامل في حديث مع موقع “الحرة” إلى أن “التوازن الطبيعي بين الكتل الهوائية الباردة والحارة اختل تماماً لصالح الكتل الحارة التي باتت تهيمن على المناخ العالمي، وهذا التغير الجذري أدى ارتفاع حاد في درجات الحرارة”.
ويشدد على أن التقسيم التقليدي للفصول أصبح أمراً من الماضي، حيث “بتنا أمام فصل صيف طويل وحار جداً وشتاء طويل وقاس جداً”.
أما فهيم فيقول إن “أسباب ارتفاع درجات الحرارة معروفة، وهي تعود إلى تغير المناخ، الناتج عن الاحتباس الحراري الذي ينتج عن انبعاثات الغازات الدفيئة، التي تأتي من الأنشطة الصناعية في الدول الصناعية الكبرى، مثل الصين، الولايات المتحدة، كندا، الهند، الاتحاد الأوروبي، والبرازيل، والتي تتسبب بأكثر من 80% من انبعاثات هذه الغازات”.
تغيرات “قاتلة”
توقعت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن “يكون متوسط درجة الحرارة العالمية القريبة من السطح لكل عام بين عامي 2024 و2028 أعلى من خط أساس الفترة بين عامي 1850-1900 بمتوسط يتراوح بين 1.1 و1.9 درجة مئوية”.
وأشارت المنظمة في تقرير أصدرته في يونيو الماضي، إلى أنه من المرجح بنسبة 86% أن تسجل سنة واحدة على الأقل من هذه السنوات رقماً قياسياً جديداً في درجات الحرارة، متجاوزة بذلك عام 2023 الذي يعد حالياً أكثر الأعوام دفئاً.
ويضيف التقرير أن هناك احتمالاً بنسبة 47% أن يتجاوز متوسط درجة الحرارة العالمية خلال فترة السنوات الخمس 2024-2028 مستوى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 32% مقارنة بتقرير العام الماضي للفترة 2023-2027.
وتتسبب درجات الحرارة المرتفعة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى حول العالم في وفاة عدد من الأشخاص. ففي السعودية، على سبيل المثال، تزامن هذا الارتفاع القياسي مع مناسك الحج، مما أسفر عن وفاة بعض الحجاج. كما لقي عدد من السودانيين مصرعهم خلال تهريبهم برا إلى الأراضي المصرية بسبب ضربات الشمس، في شهر يونيو الماضي، وفق ما نقلته وكالة الأنباء السودانية.
وفي الصين، قضى أربعة أشخاص على الأقل بعد طقس ماطر وسط ارتفاع درجات الحرارة، وفقاً لوسائل الإعلام الرسمية. وتشهد الصين ظروفا مناخية قصوى هذا العام، وهي آخذة في التفاقم بسبب تغير المناخ، بحسب ما يقول علماء، كما وصلت درجة الحرارة في مصر، في بعض المحافظات إلى نحو 50 درجة مئوية، مما أثر سلباً على حياة المواطنين.
وتسبّبت العاصفة الاستوائية ديبي التي دخلت البرّ الأميركي صباح الاثنين الماضي بقوة إعصار، قبل أن تتراجع حدّتها، بوقوع أربعة قتلى على الأقلّ، وهي الآن تهدّد بحدوث فيضانات كارثية في جنوب الولايات المتحدة.
ويقول كامل “تؤدي زيادة درجة حرارة المحيطات، وهي نتيجة مباشرة لتغير المناخ، إلى زيادة حدة وشدة العواصف الاستوائية”. وتواصل درجات حرارة المحيطات تسجيل أرقام قياسية جديدة خلال عام 2024، لتؤكد استمرار الاتجاه السائد منذ عام 2023، إذ تتجاوز درجات الحرارة الأرقام القياسية السابقة بفارق كبير، وفقا لتقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية في أبريل الماضي.
تداعيات مأساوية
يؤثر تغير المناخ بشكل كبير على حياة الإنسان، إذ يتسبب كما يشير فهيم “في خسائر اقتصادية فادحة، ويؤثر سلباً على الصحة العامة، ويضع ضغوطاً متزايدة على الموارد الطبيعية”.
ويشرح “على سبيل المثال، يشهد قطاع الزراعة اضطرابات كبيرة بسبب تغير المناخ، إذ تتسبب التقلبات المناخية في تقلب الإنتاج الزراعي، مما يؤثر على الإنتاجية وسبل عيش المزارعين، ويؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية ونقصها في بعض المناطق. بالإضافة إلى ذلك، تتسبب الكوارث الطبيعية المتكررة، مثل الفيضانات والجفاف، في تدمير البنية التحتية وتشريد السكان، مما يزيد من حدة الأزمات الإنسانية والاقتصادية”.
أما كامل فيشير إلى أن “آثار ارتفاع درجات الحرارة تتجلى بشكل واضح في ذوبان الجليد القطبي وتراجع الغطاء الثلجي على نطاق واسع، وأثر ذلك على كل دول العالم بما فيها منطقة شرق المتوسط. فلبنان مثلاً يشهد انحساراً غير مسبوق للثلوج في المناطق التي يقل ارتفاعها عن 1400 متر عن سطح البحر. هذه الظاهرة، التي كانت تعتبر استثنائية في السنوات الماضية، تشكل مؤشراً قاطعاً على تسارع وتيرة الاحترار العالمي”.
ويشرح “أدى ارتفاع حرارة الكوكب إلى ذوبان الأنهار الجليدية وتآكل الصفائح الجليدية، مما يزيد من الضغط على القشرة الأرضية ويرفع من خطر حدوث الزلازل والانفجارات البركانية. كما يؤثر هذا الذوبان بشكل كبير على أنماط هطول الأمطار، مما يزيد من حدة الجفاف ومن الظواهر الجوية المتطرفة كالأعاصير والفيضانات وموجات الحر”.
ولا تقتصر تداعيات هذه الظاهرة على البيئة الطبيعية فحسب، بل تمتد كما يقول كامل، لتشمل المجتمعات البشرية “فارتفاع مستوى سطح البحر الناتج عن ذوبان الجليد يهدد المدن الساحلية بالفيضانات، كما يتسبب في فقدان التنوع البيولوجي، حيث تواجه العديد من الأنواع الحيوانية والنباتية خطر الانقراض نتيجة لتغير موائلها الطبيعية”.
ويؤدي تراجع الإنتاج الزراعي إلى “انعدام الأمن الغذائي وارتفاع أسعار المواد الغذائية، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في العديد من المناطق”.
إضافة إلى ذلك، “تسهم موجات الحر في زيادة حالات الإجهاد الحراري والأمراض المرتبطة بالحرارة، مما يضع ضغطاً إضافياً على النظم الصحية”.
خطوات إنقاذية
يشكل ارتفاع درجات الحرارة العالمية تحدياً كبيراً للبشرية. وتتطلب معالجة تغير المناخ، كما يؤكد فهيم، “جهوداً مشتركة على الأصعدة كافة: وطنياً، إقليمياً، وعالمياً، مع مشاركة فعالة من الأفراد”.
ويقول فيهم “تقع على عاتق الدول الصناعية الكبرى مسؤولية تاريخية لدعم الدول النامية التي تأثرت بشكل أكبر بالتغير المناخي، رغم مساهمتها المحدودة في انبعاثات الغازات الدفيئة. يتطلب ذلك تقديم التزامات مالية سخية لتمويل مشاريع التكيف والبنية التحتية، مع التركيز على قطاعات حيوية مثل الزراعة وإدارة الموارد المائية”.
ويشدد على “أهمية الاستثمار في مشاريع تعويض المياه، “نظراً لأثر الجفاف المتزايد على المنطقة العربية. وتتطلب هذه المشاريع استثمارات ضخمة، لكنها ضرورية لضمان الأمن المائي للأجيال القادمة”.
وعلى المستوى الفردي، “تلعب التوعية والتثقيف دوراً حاسماً في مواجهة التغير المناخي، حيث يجب تعزيز الوعي بالمخاطر الناجمة عن ارتفاع درجات الحرارة، وتشجيع تبني سلوكيات صديقة للبيئة. كما يجب الاستثمار في أنظمة الإنذار المبكر لحماية المجتمعات من الكوارث المرتبطة بالمناخ”.
كذلك يرى كامل أن مواجهة تحديات ارتفاع درجات الحرارة، تتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة وشاملة من قبل الدول العظمى من بينها “الانتقال إلى الطاقة المتجددة، حماية الغابات، وتعزيز الزراعة المستدامة التي تقلل من انبعاثات الغازات الدفيئة وتعزز صحة التربة، ونشر الوعي حول تغير المناخ وأهمية الإجراءات الفردية والجماعية للحد من تأثيراته”.
ويحذّر كامل من أن “عدم معالجة أسباب التغير المناخي قد يؤدي إلى تحولات جذرية في كوكبنا بحلول عام 2100، معتبراً أن بلوغ عام 2050 دون حدوث كارثة بيئية سيكون بمثابة معجزة”.